الأربعاء، 27 مارس 2019

عصير جوافة


عصير جوافة


كيف جرفتني تيارات الحياة هكذا بعيداً عن هذا اليقين؟ الإيمان التام بقدرته وحُسن التوكل عليه ولهفة الإلتجاء إليه؟ 
لكم هي فتنة هذه الدنيا.. تفتن الروح فتحيطها حتى لا تجد مجالاً لرؤية ما هو أبعد منها.. كيف وصلت لهنا؟

أذكر جيداً حث أمي الدائم لي ولأخي على الهرع لله لطلب كل ما نرجوه متيقنين باستجابته وإنه ليس سواه من يُحقق كل ما نأمل ونرجو.. الناس أسباب.. حتى أمي هي سبب قد أوجده الله لنا.. كل ما في الدنيا هو أسباب.. أما هو.. فرب كل تلك الأسباب القادر على كل شئ.

حتى إني أذكر ذات ليلة صيفية وقد أوشك منتصف الليل على الاقتراب إني قد دنوت من أمي وذكرت لها اشتهائي لعصير جوافة.. ولم يكن هناك جوافة بالمنزل حينها.. والوقت قد تأخر لتذهب لإبتياع بعضاً منها ولا يمكن بالتأكيد أن ينزل أخي الذي لم يكن تجاوز السنوات الأربع من عمره حينذاك.. فمن أين لها أن تأتي لي به؟

مازلت أذكر ابتسامتها العذبة وهي تشرح لي تلك الأسباب وإنها لا حيلة لها لتلبية رغبتي ولكن.. اسألي الله فإنه وحده القادر على تحقيق كل شئ.

يومها وقد كنت في السابعة من عمري ناقشتها عن إن عصير الجوافة أمر تافه لا يستدعي أن أتوجه لله وأبتهل من أجله بالتأكيد، ازدادت ابتسامتها العذبة اتساعاً وهي تجيبني بأن الدعاء لا يكون فقط فيما عظم شأنه ولا ما هو مُستحيل.. على المرء أن يتوجه لله بطلب كل ما يريد حتى لو كان حفنة من ملح.. ألا تطلبين مني كل ما تريدي مهما كان، خاصة توافه الأمور؟.. من الأولى أن نتوجه لله بقلوبنا في طلب كل شئ قبل حتى طلبه من أي بشر حتى لو كان أقرب الناس إلينا.. فقلوب من نحب بيده وهو القادر على أن يحول رفضهم لتلبية أمر تريدينه إلى قبول في لحظة.. لذا ما رأيك أن تسأليه دوماً ما تريدي حتى قبل أن تطلبيه مني.. كمثال.. أنتي تريدين أن تذهبي للنادي في يوم.. ادعي الله ثم توجهي إلي بعدها واسأليني الذهاب للنادي كي يجعلني الله أوافق فوراً.. ولكن لتعلمي إن استجابة الدعاء بثلاثة طرق كما ذكر نبينا عليه الصلاة والسلام ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا ، قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ ؟ قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ)، فلا يلزم في استجابة الدعاء حصول المراد بعينه.. من الممكن كذلك أن يحدث بطريقة أفضل مما كنتي تتخيليه.. كما قد يدخره الله لكِ ليوم القيامة وقد يرفع به عنك بلاء أو يخففه.. كما إنه (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل )..فيلزمنا التريث وعدم الاستعجال والإلحاح في الطلب والدعاء.. أتشكين في حبي لكِ وفي إنني أريد أن أحقق لك كل ما تأملين؟

أجبتها بثقة: لا.. فردت وهي ترنو إلي ولكني أمنع عنكِ بعض الأشياء كذلك حباً فيكِ.. فلا أعطيكي الكثير من السكاكر حتى تظل أسنانكِ جميلة ولا يفسد منظرها سوس أسود كما إن السوس سيؤلمك وأنا أحب أن أجنبك الألم.. ولله المثل الأعلى حبيبتي.. تيقني أن من سيحبك دوماً أكثر مني هو الله.. وإنه وإن منع عنك شئ فلأن فيه أذى لكِ ولكنك لا تعلمين ما هو ذاك الأذى.. فليس كل ما أمنعه عنكِ تعرفين سببه ولكنك مع ذلك تتيقني بأنه لخير لكِ لأنكِ تعلمين مقدار حبي وإني لن أوذيكي أبداً.. تفهمينني؟
أومأت لها بأن نعم .

تركت أمي وتوجهت للنافذة ونظرت للسماء وأنا أفكر رغم كل كل شئ كيف يمكن لله أن يأتيني بعصير جوافة الآن؟ فبالمنطق الدنيوي ذلك مُستحيل حتى لو دعوته فربما يأتيني به في الغد حينما يمكنها هي أن تبتاع لي بعض الجوافة ولكن الليلة الأمر مُنتهي.. ورغم ذلك وجدتني أتوجه إليه بطلبي وأكرره مراراً وأنا أفكر في كلمات أمي وفي قدرته على كل شئ.. لقد خلق كل ذلك الكون لذا تأكيداً لن يعجزه أن يأتيني بما أريد ولو كان الآن.. ولكن ماذا لو لم يأتيني به؟ ممم قطعاً سيستجيب لي فهو لا يرد سائل ولا يخيب ظن عبده حين يرجوه.. آمني يقيناً يا ساره باستجابته لكِ بأحدى الطرق الثلاث التي علمتها لكِ أمك الآن.. هل يُخالجك شك في أنك ستتركين العالم أجمع وتقفين الآن وحدك على بابه تسأليه ثم لا يستجيب؟.. كلا قطعاً هو الله الكريم مالك الملك لن يخذلني يوماً.. ابتسمت وأنا أقول هامسة ربي إني راضية بأي طريقة ستستجيب بها دعائي.

تنهدت وظللت واقفة أتأمل السماء والمباني والخضرة حتى وجدت يد أمي تربت على كتفي من الخلف استدرت وأنا لا أكاد أراها جيداً لأنها كانت تقف في الظلام خلفي في الصالون ولم أكن أضأت النور ولا هي كذلك حتى يتسنى لها التحرك بحرية بلا حجاب بدون أنا يراها أحد من الخارج .. أمسكت أمي يدي وهي تقول بنبرة فرحة تعالي.. مشيت خلفها وهي تكمل: لن تصدقي ما حدث.. أنتي دعوتِ الله بلا شك.. أليس كذلك؟.. أجبتها أن نعم وحينئذ كنا وصلنا للمطبخ وأشارت لدورق على الطاولة به عصير جوافة!.. وقبل أن أستوعب ما أرى أندفعت تشرح لي وقسمات الفرح تزيد وجهها الجميل بهاء: وجدت من يطرق الباب وتعجبت لوهلة ثم قلت لعلها جدتك وتوجهت صوب الباب ونظرت في العين السحرية فوجدتها جارتنا السورية "برين" فتحت لها وإذا بها تعتذر لي على ازعاجي في ذلك الوقت وتشرح لي إنها كانت تعد بعض عصير الجوافة وكان كثيراً ففكرت أن تشاطرني بعضاً منه.. أرأيتي يا "سرورة" إنه الكريم الجواد القادرعلى تسخير الكون كله لأجل ما تريدي في أي وقت.. والآن لا تنسي أن تشكريه على نعمه ليرضى كما إن شكر النعمة يُربيها.

كان قلبي يخفق بقوة شاكراً ممتناً راضياَ ومحباً.. والأهم مؤمناً.
هو ربي ووكيلي وحسبي لن يُخذلني يوماً.. أي أمان قد ألتمسه بعد ذلك الشعور؟
الحمدلله والشكر لله دائماً وأبداً.


ثم أين أنا الآن.. تكور إيماني ويقيني على نفسه ونأى بزاوية بعيدة في نفسي يطل عليّ من حين لأخر على استحياء حينما يحز بالنفس ما فوق طاقتها وبشدة..ولكن ليس على الدوام وفي كل أموري كما كنت سابقاً.. لما اندفعت وراء الأسباب أكثر من رب الأسباب.. لما غرتني الدنيا حتى ذاك الحد؟.. لا يهم.. المهم إني انتبهت.. المهم أن أعود فأحتضن ذلك اليقين والإيمان حتى يشملني.


ساره نهل المصري
الأربعاء 27-3-2019




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق